المرأة؛ القضيّة التي لم يبقَ كيانٌ هنا وهناك إلَّا أعلنَ تصدّيه لنصرتها وانتزاع حقوقها من بين شدقِ الأفاعي الظالمة، كما يُدَّعى، وما أكثرَ الدَّعوى وأقلَّ الصّدق فيها، فكم زاودَ عليها المزاودونَ واتَّخذوا قضيّتها سُلّمًا لتلميعِ صورةٍ حضاريّة تسعى لأن تكون نموذجًا عالميًّا، وكم تحذلقَ كثيرونَ في ميادين القولِ ومنابر الاستعراض الرسميّة وغير الرّسميّة صارخينَ بالمطالبة بإنصافها؛ مغرقينها بشعاراتٍ لا تراعي خصوصيتها .
وما بينَ تغييبٍ عن المشهدِ كلّيَّةً وحضورِ صوريٍّ لدفعِ التهمة تتشابكُ الرؤى ويكملُ الآخرونَ دورهم في التّشويش مما يجعلنا أمام حاجة ماسة إلى تحرير ما اشتبه من المصطلحات ووضع الأمور في نصابها، ولعلّ من أكثر القضايا والمصطلحات تردادًا فيما يتعلق بانتزاع المرأة حقَّها الطبيعي في غابةِ التهميش المريرِ هو مصطلح” تمكين المرأة” الذي أخذناه عن غيرنا باليمين.
“التمكين”.. نشأةً ومعنى
دراسة جذور المصطلحات وتحديد مفاهيمها ليس ترفًا ثقافيًّا إنما تترتب فائدة عملية وعلمية على معرفته ليس أقلها إزالة اللبس الحاصل من تبني مصطلحات وأفكار لا تشبهنا؛ ونحن إذ نكرر مصطلحات الآخر ونرددها داعين إلى تطبيق مفاهيمها من دون تمحيص أو معرفة بالجذور الثقافية والاجتماعية والبيئة السياسية التي أنشأت مصطلحًا ما[1]،[2]، وحددت مفاهيمه، وتكونُ وظيفتنا استخدامه وفق المعنى المتبادر لنا بناء على العرف في استعماله فإننا نوقع أنفسنا بمأزق من حدين:
الأول: أننا ننتزع شتلة الآخر من تربتها لنزرعها في غير بيئتها متوهمين أنها ستؤتي أكلها.
والثاني: أننا بالشعارات والمصطلحات الفاقعة نلزم أنفسنا أمام الرأي العام بما لا ندركُ معناه عندهم ولا نستطيعه كما يريدونه.
خرج مصطلح “تمكين المرأة” من عباءة هيئة الأمم المتحدة ومن بيئة تتناسب بالضرورة مع معاني هذا المصطلح والصيحات المنادية لتطبيقه وإذا ما رجعنا إلى مصطلح “التمكين” المُترجم عن وثيقة الأمم المتحدة بالإنجليزية وجدناه (Women Empowerment)، و (Empowerment) تعني استقواء. في حين أن المرادف لكلمة تمكين في اللغة الإنجليزية هو كلمة (Enabling).
واستقواء المرأة (Women Empowerment)، يعني تقوية المرأة لتتغلب على الرجل في الصراع الذي يحكم العلاقة بينهما، وفقا لطبيعة العلاقة بين الجنسين في الثقافة الغربية التي أفرزت ذلك المصطلح،
ويتماشى ذلك التفسير مع الحركة النسوية الراديكالية التي تبنت مبدأ الصراع بين الجنسين -الإناث والذكور- انطلاقًا من دعوى أن العداء والصراع هما أصل العلاقة بينهما، ودعت إلى ثورة على الدين، وعلى اللغة، والثقافة، والتاريخ، والعادات والتقاليد والأعراف، بتعميمٍ وإطلاقٍ، وسعت إلى عالمٍ تتمحور فيه الأُنثى حول ذاتها، مستقلة استقلالاً كاملاً عن عالم الرجال[3]
ترجع جذور مفهوم “التمكين” إلى الستينات من القرن الماضي؛ إذ ارتبط بالحركات الاجتماعية المطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية للمواطنين، وبعدها استُخدم بمعاني عدة ومجالات مختلفة، كالاقتصاد، والعمل الاجتماعي والسياسي.
وقد تشعّب المفهوم ليطال التعبير عن عملية فردية يكون المرء فيها مسؤولًا عن نفسه ومسيطرًا على حياته ووضعه، ويعد التمكين عملية سياسية لمنح المجموعات المهشمة حقوقهم وتوفير العدالة الاجتماعية لهم.
ثم عاد مصطلح التمكين للظهور بقوة في التسعينات عقب إعلان مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية في 1994م[4]، ثم في المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين 1995م[5] حيث دعا المؤتمر إلى إزالة العقبات التي تعطل تمكين المرأة في الجانب الاقتصادي؛ وذلك لتتمكن من ممارسة دورها الاقتصادي وتتفاعل مع السياسات الاقتصادية، وبعدها طار المصطلح في الأُفق واستخدمته المؤسسات الدولية والبنك الدولي في لغتهم وخطاباتهم، وتعالت الأصوات مطالبةً بـ “تمكين المرأة” في مناحي الحياة للنهوض بالمجتمع وتنميته.
وههنا قولٌ لا مناص منه فهو قطب الرَّحى الذي ندور حوله؛ إنَّ مصطلح “تمكين المرأة” مستمد من ثقافة (الجندر) الكلمة المستخدمة أكثر من مئتي مرة في وثيقة مؤتمر بكين للمرأة 1995م، وقد بدأ الجدل بشأن هذا المفهوم منذ أواخر السبعينات وهو مفهوم منبثق من عمق الحداثة الأوربية والأمريكية.
و جندر (Gender) كلمة إنجليزية تعبر عن الاختلاف والتمييز الاجتماعي للجنس[6]، وهو الجنس المتعلق بمكونات الذكورة والأنوثـة بالدرجة الأولـى، وقد استعير من البيولوجيا كما أنه الوجه الاجتماعي الثقافـي للانتماء الجنسـي، ومن خلاله تأتي الدعوة إلى رفض التمييز والفروق البيولوجية والتاريخية والاجتماعية بين الذكر والأنثى عند إناطة الأدوار بهما[7]، على مبدأ أنه “لا يولد الإنسان امرأة، إنما يُصبح كذلك” كما تقول الفيلسوفة الوجودية (سيمون ديبو فواغ) في كتابها “الجنس الثاني”.
فهو دعوى حقيقية إلى التجريد الجنسي، واتباع الرغبات والميول والتحلل من الالتزام الفرداني وتحقيق الذات، وإن كانت النتيجة عائلة مكونة من جنسين متشابهين، أو كانت النتيجة التخلص من كل الروابط الأسرية فلا ضير أيضًا.
ومن فكر/ثقافة الجندر وُلِدَ مصطلح “تمكين المرأة” الذي بدأنا بالقول إن ترجمته الحرفية “استقواء”، فتمكين المرأة وفق الأجندة السابقة لا يكون من خلال السعي لتزويدها بالكفاءة اللازمة وتوفير الفرص الحقيقية لها لتحقق ما تصبو إليه من تقدم علمي ومهني يخدم دورها الأسري والاجتماعي والذاتي دون تعارض مع تشريعات دينها وثقافة مجتمعها وحضارتها، بل من خلال تطبيق التحاصص النسبي الذي يجعلها مساوية للرجل بكل شيء بل يجردها من انتمائها الجنسي وميولها الفطرية لتكون أقوى وجوديًّا.